التراث والتجديد-جدلية الهوية والتحديث في الفكر العربي والإسلامي
التراث والتجديد مفهومان متلازمان يشكّلان معًا جدلية أساسية في مسار تطور الفكر والثقافة في المجتمعات. فالتراث هو الرصيد الحضاري والثقافي الذي خلّفه الأسلاف، ويتضمن القيم، والمعارف، والتقاليد، والنصوص التي تشكّل هوية الأمة. أما التجديد، فهو عملية نقدية وإبداعية تهدف إلى تفعيل هذا التراث واستثماره في ضوء معطيات العصر الحديث. إن التحدي يكمن في تحقيق التوازن بين الوفاء للماضي والانفتاح على الحاضر والمستقبل، بحيث لا يكون التراث عائقًا أمام التقدّم، ولا يكون التجديد قطيعة مع الجذور. من هنا تنبع أهمية الخطاب المعاصر في التعامل الواعي مع التراث بروح التجديد لا الجمود.
1. مفهوم التراث-بين المعنى الجامد والدلالة المتحركة
يشكل مفهوم "التراث" أحد الأعمدة الأساسية التي يدور حولها الفكر العربي والإسلامي، وهو في الوقت ذاته من أكثر المفاهيم التباسًا وإثارة للجدل، بسبب تشابكه مع الهوية والتاريخ والدين والثقافة. فالتراث ليس مجرد معطى ماضوي منقطع عن الحاضر، بل هو منظومة متكاملة من الأفكار والمعتقدات والقيم والنصوص والممارسات التي أنتجها العقل الجمعي للأمة عبر قرون طويلة، واستقرت بوصفها مرجعًا ثقافيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا.
لقد درجت بعض المقاربات التقليدية على النظر إلى التراث نظرة "جامدة"، أي بوصفه كتلة صلبة مكتملة، لا تقبل التغيير أو المراجعة، وتستدعي الخضوع الكامل لنصوصها وآلياتها الفقهية واللغوية والفكرية كما هي، دونما اعتبار لاختلاف السياقات التاريخية أو تبدل الأحوال. وهذا الفهم، وإن انطلق من الحرص على الهوية والثوابت، إلا أنه يحمل في طياته خطر الوقوع في "التمجيد المطلق"، الذي يعطل ملكة النقد والإبداع، ويحوّل التراث من كونه مادة فكرية حية إلى "نُصُبٍ معرفي" يُعبد دون مساءلة.
في المقابل، برز اتجاه آخر يدعو إلى مقاربة التراث بوصفه "دلالة متحركة"، أي باعتباره نتاجًا بشريًا تاريخيًا يمكن إعادة قراءته وتأويله وفقًا لسياقات جديدة. هذا الاتجاه يتعامل مع التراث باعتباره خطابًا، لا مجرد نصوص صماء، وبالتالي فهو قابل للتفكيك والتحليل والتأويل، دون أن يعني ذلك نكرانه أو القطيعة معه. بل إن استيعابنا للتراث يتطلب إدراكًا نقديًا، يميز بين "الثابت والمتغير"، ويفتح الباب لإمكانية استثماره في بناء الحاضر وصياغة المستقبل.
وقد عبّر المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن هذا التوجه عندما قال إن التراث ليس هو النصوص فقط، بل هو "العقل الذي أنتج تلك النصوص"، وهو عقل له شروطه ومحدداته التاريخية والمعرفية، وبالتالي فإن تجديد علاقتنا بالتراث لا يكون بنقله كما هو، بل بفهم منطق إنتاجه ومنظومته المعرفية.
إن التراث في بعده الحي لا ينبغي أن يكون "سجنًا" نُحتجز فيه، بل "جسرًا" نعبر من خلاله نحو آفاق جديدة. ولهذا فإن السؤال الحقيقي ليس: هل نحافظ على التراث أم نتجاوزه؟ بل: كيف نعيد بناء علاقتنا به ليكون قوة دفع لا عبئًا؟ كيف نستخرج من الماضي طاقاته الحيوية دون أن نستنسخ أزماته؟
في النهاية، إن تجاوز النظرة الجامدة إلى التراث، والتعامل معه باعتباره نصًا مفتوحًا للتفاعل، لا يعني المساس بثوابت الدين أو الهوية، بل يمثل محاولة عقلانية مسؤولة لتحرير الوعي من الاستلاب، والانطلاق نحو تجديد أصيل يستلهم من الماضي ما يبني به المستقبل.
2. مفهوم التجديد-بين التحديث والانقطاع
يشير التجديد في الفكر العربي والإسلامي إلى عملية عقلية وثقافية تهدف إلى إعادة تفعيل عناصر الهوية الحضارية بما يتلاءم مع مستجدات العصر، دون الوقوع في فخ الانقطاع الجذري أو التقليد الأعمى. وقد ارتبط هذا المفهوم بسؤال النهضة منذ القرن التاسع عشر، حين بدأت المجتمعات الإسلامية تواجه تحديات الاستعمار، والانهيار السياسي، والانفتاح على منجزات الحداثة الغربية.
والتجديد – في جوهره – لا يعني تبني كل جديد لمجرد أنه حديث، كما لا يعني رفضه فقط لأنه غريب عن البيئة الثقافية المحلية. بل هو فعل انتقائي واعٍ، يستند إلى معيار أساسي: ما الذي يمكنه خدمة المجتمع من منطلق واقعه التاريخي وثقافته الخاصة، وما الذي ينبغي إعادة النظر فيه من عناصر التراث التي لم تعد تفي بالحاجات المعاصرة؟
وقد خلط كثيرون بين التجديد و"التغريب"، فظنوا أن التجديد هو نسخ للنموذج الغربي بحذافيره، متغافلين عن خصوصيات السياق الحضاري الإسلامي. كما وقع آخرون في الجهة المقابلة في فخ "الجمود"، رافضين كل تغيير خشية المساس بالثوابت، في حين أن الإسلام نفسه يدعو إلى الاجتهاد والتفاعل مع الزمن، كما جاء في الحديث الشريف: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها."
التجديد الحق إذًا هو موقف معرفي يعترف بتراكم الخبرة الإنسانية، ويؤمن في الوقت نفسه بقدرة التراث على إنتاج دلالات جديدة من داخله، دون أن يفقد صلته بجذوره. وهو كذلك فعل جدلي، لا يتوقف عند حدود النقل أو الابتكار المجرد، بل يشتبك مع قضايا الواقع، ليقدّم حلولًا عملية قابلة للتطبيق.
ومن هنا، يظهر أن التجديد الحقيقي لا يتطلب مجرد تحديث المصطلحات أو تغيير الشكل الخارجي للمفاهيم، بل يتطلب تحولًا في البنية الفكرية نفسها، بحيث تتم إعادة بناء العلاقة بين النص والواقع، وبين العقل والوحي، وبين الماضي والمستقبل، بشكل يضمن الاستمرارية دون السقوط في التكرار أو التبعية.
3. اشكالية النهضة بين الأصالة والمعاصرة
منذ لحظة الصدمة الأولى أمام التفوق الغربي العسكري والحضاري في القرن التاسع عشر، وجد الفكر العربي الإسلامي نفسه وجهاً لوجه أمام سؤال النهضة: كيف يمكن للأمة أن تستعيد مكانتها، وأن تنخرط في العصر دون أن تتنكر لهويتها؟ هذا السؤال، الذي لم يُغادر ساحة الفكر حتى اليوم، ظل مطروحًا تحت عناوين متعددة: الإصلاح، التجديد، التحديث، التنمية، لكن جوهره بقي يتمحور حول التوفيق بين "الأصالة" و"المعاصرة"، أو بلغة أوضح: كيف نبني نهضتنا دون أن نفقد ذواتنا؟
إن إشكالية النهضة تنبع من التوتر القائم بين مرجعية ماضٍ مجيد، غالبًا ما يُستحضر بنَفَس مثالي، وبين واقع معاصر مشبع بتحديات الحداثة الغربية، بما تحمله من مفاهيم عقلانية، وعلمانية، وحقوق فردية، ونظم مؤسسية. فالنهضة ليست مجرّد لحظة تاريخية، بل هي مشروع حضاري متكامل، يقتضي إعادة بناء الفكر، وإصلاح المؤسسات، وتجديد النظم الثقافية والسياسية والاجتماعية، انطلاقًا من سؤال: ما الذي نأخذه من تراثنا؟ وما الذي نستلهمه من الآخر؟
وقد انقسم المفكرون والمصلحون العرب والمسلمون إزاء هذه الإشكالية إلى اتجاهات شتى:
اتجاه محافظ رأى في الأصالة وحدها مصدر القوة والنهضة، داعيًا إلى العودة الكاملة إلى النموذج الإسلامي الأول، ومحذرًا من تغوّل الفكر الغربي ومخاطره على الهوية. من رواد هذا الاتجاه: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده – وإن كان الأخير أكثر انفتاحًا على فكرة التوفيق بين العقل والنقل.
اتجاه تغريبي تبنّى النموذج الغربي بوصفه الحل الأمثل، ودعا إلى قطيعة معرفية مع التراث، معتبراً أنه عائق أمام التقدم. ومن أبرز رموزه: سلامة موسى، وفرح أنطون، وشبلي شميل، الذين رأوا أن النهضة لا تُبنى إلا بتبنّي العقلية العلمية الحديثة والانخراط في مشروع الحداثة الغربية.
اتجاه توفيقي نقدي حاول أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، مستندًا إلى فكرة الانتقاء الواعي، والنظر إلى التراث باعتباره مصدرًا لا مرجعية مطلقة، وإلى الحداثة باعتبارها فرصة لا تهديدًا. ومن أبرز المفكرين في هذا التيار: محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمن، مالك بن نبي، ومحمد أركون.
لقد اتضح مع مرور الوقت أن النهضة الحقيقية لا يمكن أن تكون "استنساخًا" لتجارب الغير، ولا "اجترارًا" لمآثر الماضي، بل هي فعل نقدي مزدوج: نقد الذات ونقد الآخر، أي نقد بنية الفكر التقليدي من جهة، ونقد مركزية الحداثة الغربية من جهة أخرى. ولا يمكن لهذه النهضة أن تنجح ما لم تنطلق من فهم عميق للسياق المحلي والتاريخي والثقافي.
وفي ظل العولمة والثورات التكنولوجية المتسارعة اليوم، فإن إشكالية الأصالة والمعاصرة تزداد تعقيدًا، فالمجتمع العربي مطالب ليس فقط بإعادة ترتيب علاقته بماضيه، بل أيضًا ببناء منظومة فكرية ومؤسساتية قادرة على التعامل مع متغيرات العالم الجديد: الاقتصاد الرقمي، الحريات، الذكاء الاصطناعي، البيئة، والمواطنة العالمية.
ولعل التحدي الأكبر هو في تحويل "الأصالة" من مفهوم استرجاعي إلى طاقة إبداعية، وتحويل "المعاصرة" من تبعية للغرب إلى مشاركة فاعلة في صياغة المستقبل.
4. الاتجاهات الفكرية في التعامل مع التراث
إن مسألة التراث في الفكر العربي والإسلامي المعاصر لم تكن موضع اتفاق، بل كانت – ولا تزال – ساحة صراع فكري ومعرفي حاد، نشأت فيه تيارات واتجاهات متعددة، لكل منها تصوره الخاص لطبيعة التراث، ووظيفته، وحدود التعامل معه. هذا التنوع في المقاربات يعكس في عمقه أزمة الهوية والوعي التاريخي التي واجهتها المجتمعات الإسلامية في سياق الحداثة، كما يعكس محاولات متعددة للإجابة عن سؤال: "كيف نفهم تراثنا؟ وكيف نبني عليه أو نتجاوزه؟"
يمكن تصنيف الاتجاهات الفكرية في التعامل مع التراث إلى أربعة تيارات رئيسية:
1. الاتجاه السلفي التقليدي
يرى هذا الاتجاه أن التراث هو التعبير الأصيل عن الإسلام الحق، وأن العودة إليه – نصًا وفهمًا – هي السبيل إلى الإصلاح والنهضة. يتعامل السلفيون مع التراث بوصفه نموذجًا مكتملًا ومعصومًا في أغلب أجزائه، ويطالبون باستحضاره كما هو دون تعديل أو تأويل عصري، باعتبار أن الخير كله في اتباع السلف.
يتميز هذا الاتجاه بالنقلية والجمود النسبي، ويُعارض بشدة محاولات التأويل أو التفكيك أو النقد الداخلي للتراث، لأنه يرى في ذلك مساسًا بالثوابت. ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه يعاني من إشكالية كبرى، وهي تجاهله لاختلاف السياقات التاريخية والاجتماعية بين الماضي والحاضر، مما يجعله عاجزًا عن تقديم حلول عملية للكثير من التحديات المعاصرة.
2. الاتجاه التغريبي (القطيعي)
يمثل النقيض المباشر للاتجاه السلفي، إذ يدعو إلى القطيعة مع التراث أو تجاوزه كليًا، بحجة أنه عائق أمام التقدم والتحديث. هذا التيار، الذي تأثر بشكل كبير بالحداثة الغربية ومناهجها الوضعية، يرى أن التراث يحمل في داخله بذور التخلف والانغلاق، ولا يمكن بناء الحاضر أو المستقبل بالاعتماد عليه.
من أبرز رموزه في الفكر العربي: سلامة موسى، شبلي شميل، فرح أنطون. وقد اتُهم هذا الاتجاه بأنه يتعامل مع التراث بنظرة استعلائية واختزالية، متجاهلًا الجوانب الحية أو الإبداعية فيه، بل ورافضًا أي إمكانية لإعادة تأويله في ضوء معطيات العصر.
3. الاتجاه الانتقائي التوفيقي
يُعد هذا الاتجاه محاولة للبحث عن توازن نقدي بين التمسك بالتراث والاستفادة من الحداثة، عبر قراءة تراثية عقلانية تأويلية. لا ينطلق من فكرة "قداسة التراث"، لكنه في الوقت نفسه لا يرى في الغرب "نموذجًا مطلقًا"، بل يدعو إلى التعامل النقدي مع الطرفين، واستخلاص ما هو نافع وفعّال في خدمة المشروع النهضوي.
ومن أبرز رموزه: محمد عبده، مالك بن نبي، طه عبد الرحمن، محمد عابد الجابري. وقد استخدم هذا التيار أدوات تحليلية حديثة (كالبنيوية والتاريخانية) لتفكيك التراث دون إسقاطه، مما مكّنه من تقديم مشاريع فكرية جادة لإعادة بناء العقل الإسلامي.
4. الاتجاه التفكيكي ما بعد الحداثي
وهو اتجاه حديث نسبيًا، متأثر بمناهج ما بعد البنيوية والتفكيك (جاك دريدا، ميشيل فوكو). يتعامل مع التراث بوصفه نظامًا معرفيًا/خطابيًا يحمل السلطة والمعنى، ويجب كشف آلياته الأيديولوجية والبنيوية. لا يهتم هذا الاتجاه بإعادة إنتاج التراث أو رفضه، بل بتفكيك بنية الخطاب التراثي ذاته، وكشف علاقاته بالسلطة، واللغة، والمعرفة.
من أبرز ممثليه: محمد أركون، عبد المجيد الشرفي. وهو تيار يُركّز على دراسة التراث من خارج المنظومة التراثية نفسها، مما جعله في نظر البعض أكثر تحررًا، لكنه في نظر آخرين أكثر تغريبًا وبعدًا عن خصوصيات السياق الثقافي الإسلامي.
تُظهر هذه الاتجاهات أن التعامل مع التراث ليس مجرد خيار فكري، بل هو خيار حضاري يعكس رؤية أمة لنفسها ولمستقبلها. والسؤال الحقيقي لم يعد: "هل نعود إلى التراث أم نتركه؟" بل: "كيف نعيد قراءته قراءة نقدية مسؤولة توازن بين الوفاء والابتكار؟"
5. التراث بين العقل والنقل
من أبرز الإشكاليات التي يتوقف عندها الفكر الإسلامي المعاصر في قراءته للتراث، تلك العلاقة الملتبسة بين "العقل" و"النقل"، أو بعبارة أوضح: بين سلطان العقل الحرّ ومرجعية النصوص المقدسة. فقد تشكّلت معظم أبعاد التراث الإسلامي ضمن منظومة معرفية كانت تقوم – في بنيتها العامة – على التوفيق بين العقل والنقل، لكن بحدود معيّنة تضع النقل دائمًا في مرتبة العلو والتقديم.
ويعود الجدل بين العقل والنقل إلى بدايات علم الكلام، حيث اختلفت الفرق الإسلامية حول طبيعة العلاقة بينهما. فقدّمت المعتزلة العقل كمرجعية عليا لفهم الدين، فيما شدّدت الأشاعرة على مركزية النقل، مع الاعتراف ببعض وظائف العقل، بينما اتجه السلفيون إلى تقديم النقل بشكل شبه مطلق، رافضين كل تأويل عقلي قد يُفضي إلى المساس بظاهر النص.
في ضوء هذا التراث، تبلورت إشكالية مركزية في النهضة الحديثة: هل يمكن أن نعيد قراءة تراثنا بعقل نقدي حرّ دون المساس بجوهره الديني؟ وهل يُمكن للعقل المسلم أن يمارس سلطة تأويلية مستقلة دون أن يُتَّهَم بالخروج عن النص أو التجديد المبتدع؟
لقد بات واضحًا أن العلاقة بين العقل والنقل في التراث ليست علاقة صدام بالضرورة، بل علاقة جدلية، وأن هذه العلاقة تحتاج اليوم إلى إعادة ضبط في سياق معرفي جديد، يُراعي تغير الزمان، وتطور مناهج العلوم، وتوسع مفاهيم المعرفة، وتبدل حاجات الإنسان.
ولعل أبرز المحاولات المعاصرة التي اشتغلت على هذه المسألة هي:
1. • عقلنة التراث دون تفريغه من روحه
تبنّاها مفكرون كـمحمد عبده ومحمد عابد الجابري، حيث سعوا إلى تجديد أدوات الفهم التراثي من داخل العقل الإسلامي، لكن دون التنازل عن مرجعية النص. هذه المقاربة تعترف بسلطة النقل، لكنها ترى أن للعقل الحق في التأويل، والفرز، والاجتهاد، بل وضرورة استعمال المناهج العلمية الحديثة في مقاربة النصوص التراثية.
2. • نقد العقل التراثي نفسه
وهذا ما قام به الجابري في مشروعه "نقد العقل العربي"، حيث فرّق بين "العقل البرهاني" (العقل العلمي) و"العقل البياني" (الذي يغلب عليه النقل والنص)، معتبرًا أن تقدمنا مرهون بالانتقال من هيمنة البيان إلى سيادة البرهان. أما محمد أركون، فقد ذهب أبعد، حين دعا إلى "علمنة" أدوات التفكير الديني، منتقدًا ما سماه بـ"اللامفكر فيه" في التراث الإسلامي.
3.• فلسفة الفهم واللغة والتأويل
برزت في كتابات طه عبد الرحمن، الذي قدّم قراءة فريدة للعقل الإسلامي، تميزت بمحاولة تأسيس عقلانية روحية وأخلاقية لا تتقاطع كليًا مع النموذج الغربي، بل تسعى إلى تأسيس حداثة "أخلاقية" تنبع من داخل الرؤية الإسلامية نفسها.
4. نحو مخرج معرفي متوازن
إن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في "العقل" ولا في "النقل"، بل في نمط العلاقة بينهما. فحين يُعطّل العقل باسم التقديس، يتكلس الفكر، وحين يُقصى النقل باسم الحداثة، تضيع الخصوصية الحضارية. والمطلوب اليوم ليس الاستغناء عن أحدهما، بل إقامة مقاربة تأويلية مزدوجة: تحترم قداسة النص وتستثمر إمكانات العقل.
وبذلك يكون التجديد التراثي الحقيقي ممكنًا حين يتحوّل العقل من كونه مجرد تابع للنص إلى كونه شريكًا في الفهم والإبداع، دون أن يتحوّل إلى سلطة متعجرفة تملي على النص ما لم يقله.
خاتمة
إنّ الحديث عن التراث والتجديد في الفكر العربي والإسلامي ليس مجرد اشتغال ثقافي أو تنظير فكري، بل هو تعبير عن أزمة حضارية مركّبة، تحاول الذات من خلالها أن تتصالح مع ماضيها دون أن تنغلق فيه، وتلتحق بركب الحداثة دون أن تذوب في أنماطها. فالتراث ليس فقط ذاكرة جماعية أو رصيدًا معرفيًا، بل هو أحد أعمدة الهوية التي تتشكل من خلالها الرؤية إلى العالم، إلى الذات، وإلى الآخر.
وقد أظهرت التجارب الفكرية العربية المعاصرة مدى تعقيد العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، بين الانتماء والتجاوز، بين الحفظ والتجديد. فهناك من تمسك بالتراث على نحو جامد يكرّس القطيعة مع العصر، وهناك من انبهر بالحداثة الغربية إلى حدّ التنكر للجذور. وفي الحالتين، ضاعت ملامح المشروع الحضاري المتوازن.
إن التجديد لا يعني القطيعة مع التراث، بل إعادة قراءته قراءة نقدية واعية وسياقية، تستنطق نصوصه لا لتقديسها، بل لفهم منطقها التاريخي، واستخلاص الممكن منها، وتمكينها من الدخول في حوار حيّ مع متطلبات الحاضر والمستقبل. كما أن الهوية ليست سجنًا ثقافيًا، بل عملية ديناميكية مفتوحة تنمو وتُعاد صياغتها في ضوء التحديات والرهانات.
من هنا، فإنّ المستقبل لا يُبنى بإلغاء الماضي، ولا باستنساخه، بل بامتلاك أدوات وعي جديدة، تتجاوز الثنائية الزائفة بين "التراث أو الحداثة"، نحو صياغة مشروع حضاري أصيل ومجدد في آن، مشروع يستلهم من التراث روحه، ويستنير بالعقل، وينفتح على العالم.
مراجع
1. التراث والحداثة
- المؤلف: محمد عابد الجابري
- الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
- الملخص: يتناول الجابري إشكالية العلاقة بين التراث والحداثة، ويقترح مشروعًا نقديًا للعقل العربي، من خلال تمييزه بين أنماط عقلية تراثية وضرورة تجاوزها لتأسيس حداثة عربية أصيلة.
2. التراث والتجديد
- المؤلف: حسن حنفي
- الناشر: دار التنوير
- الملخص: يُعد هذا الكتاب تأسيسيًا في الفكر العربي المعاصر، حيث يسعى حسن حنفي إلى بناء "علم استئناف التراث" من خلال فهمه في ضوء الحاجات المعاصرة، وربطه بالقضايا الثورية والواقعية.
3. نقد العقل العربي (ثلاثية)
- المؤلف: محمد عابد الجابري
- الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
- الملخص: عمل موسوعي يتناول بنية العقل العربي ومراحل تشكله، ويوضح العلاقة بين العقل والنقل، ويُحلل إشكاليات التراث من منظور معرفي وفلسفي.
4. أزمة الحداثة في الفكر العربي
- المؤلف: جورج طرابيشي
- الناشر: دار الساقي
- الملخص: يناقش أزمة الهوية في ظل صدمة الحداثة، ويحلل مقاربات المفكرين العرب للتراث والحداثة نقديًا، مبرزًا مواطن القوة والضعف في خطابهم.
5. الإسلام والحداثة
- المؤلف: فهمي جدعان
- الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
- الملخص: يعالج الكتاب التوترات بين المرجعية الإسلامية والحداثة الغربية، ويسعى إلى بلورة رؤية عقلانية تُوفق بينهما دون تذويب للخصوصية.
6. الفكر الإسلامي وقضايا الحداثة
- المؤلف: رضوان السيد
- الناشر: دار المدار الإسلامي
- الملخص: يعرض مسارات تطور الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، ويركز على مسألة التجديد والإصلاح في ضوء المتغيرات العالمية والتحديات الثقافية.
مواقع الكترونية
1. مركز دراسات الوحدة العربية
يُعد من أبرز المراكز البحثية العربية التي تُعنى بقضايا الفكر العربي، خاصةً في مجالات التراث، النهضة، والحداثة.
يحتوي على مقالات ودراسات معمّقة حول إشكاليات الهوية والتجديد. www.caus.org.lb
2. مؤسسة مؤمنون بلا حدود
-تُقدّم أبحاثًا فكرية وفلسفية معاصرة تتناول قضايا التراث والتجديد من منظور نقدي -تضم مقالات لمفكرين بارزين مثل طه عبد الرحمن ومحمد أركون www.mominoun.com
3. مركز نماء للبحوث والدراسات
يُركز على الدراسات الفكرية الإسلامية، مع اهتمام خاص بالتجديد والإصلا. يحتوي على تقارير ودراسات تحليلية حول التراث والحداث. nama-center.com
4. موقع إسلام أون لاين- يُقدّم مقالات فكرية وثقافية تتناول قضايا التراث والتجديد من منظور إسلامي معار.- يحتوي على مقالات لعدد من المفكرين والباحثين في هذا المجل. www.islamonline.net
5. *موقع الألوكة
يضم مقالات ودراسات شرعية وفكرية تتناول موضوعات التراث والتجيد. يحتوي على مقالات تحليلية حول منهجية التعامل مع التاث. www.alukah.net
اترك تعليق جميل يظهر رقي صاحبه