الثقافة السياسية-مفهومها و أبعادها وتأثيراتها في المجتمعات المعاصرة

الثقافة السياسية

الثقافة السياسية-مفهومها و أبعادها وتأثيراتها في المجتمعات المعاصرة

تُعد الثقافة السياسية من المفاهيم الجوهرية في علم السياسة، إذ تُعبّر عن مجموعة القيم والمعتقدات والاتجاهات التي يتبناها الأفراد في مجتمع ما تجاه النظام السياسي ومؤسساته. وهي تلعب دوراً محورياً في تشكيل سلوك المواطن السياسي وتفاعله مع البيئة السياسية. في هذا السياق، تُعتبر الثقافة السياسية عاملاً رئيسياً في استقرار الأنظمة أو في تفككها، وفي تعزيز الديمقراطية أو عرقلتها. كما أن الثقافة السياسية تشكل الإطار الذي يتحرك فيه الفعل السياسي، سواء أكان رسميًا عبر مؤسسات الدولة، أو شعبيًا عبر قوى المجتمع المدني. لذلك، فإن دراسة هذا المفهوم تُعد مفتاحًا لفهم طبيعة التفاعل بين السلطة والمجتمع.

1. مفهوم الثقافة السياسية

تُعرَّف الثقافة السياسية بأنها "مجموعة القيم والمعايير والمواقف التي يكتسبها الأفراد من خلال التنشئة الاجتماعية، والتي تُحدد سلوكهم واتجاهاتهم تجاه النظام السياسي". ويشمل ذلك النظرة إلى السلطة، المشاركة السياسية، الثقة في المؤسسات، وطبيعة العلاقة بين المواطن والدولة. وقد تطوّر المفهوم مع تطور علم السياسة، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، حين حاول علماء السياسة مثل غابرييل ألموند وسيدني فيربا تحليل العلاقة بين الثقافة السياسية واستقرار الديمقراطية.

لقد صنّف ألموند وفيربا الثقافة السياسية إلى ثلاثة أنماط رئيسية:

1. الثقافة التابعة (Parochial): حيث يغيب الوعي السياسي لدى الأفراد، ويكون اهتمامهم بالشأن العام ضعيفًا أو معدومًا.

2. الثقافة الخاضعة (Subject): حيث يكون الأفراد على دراية بالنظام السياسي لكنهم يتعاملون معه بنوع من اللامبالاة أو التبعية، دون مشاركة فعالة.

3. الثقافة المشاركة (Participant): وهي الحالة المثالية، حيث يتمتع المواطنون بوعي سياسي عالٍ ويشاركون بفعالية في العمليات السياسية.

وتُعتبر الثقافة المشاركة من الدعائم الأساسية لنجاح النظم الديمقراطية، حيث تتيح بيئة تحفز على الانخراط المدني والرقابة المجتمعية.

2. أبعاد الثقافة السياسية

تتعدد أبعاد الثقافة السياسية، ويمكن تلخيصها في المحاور الآتية:

 1. البُعد المعرفي:

يشير إلى معرفة الأفراد بالنظام السياسي، من حيث هيكليته، مؤسساته، آلية اتخاذ القرار، ودور كل مؤسسة في صنع السياسات. فالثقافة السياسية القوية تتطلب مستوى عالياً من الوعي السياسي والمعرفة بالشأن العام. المعرفة السياسية تُمكن المواطن من فهم حقوقه وواجباته، وتُساعده على اتخاذ قرارات مستنيرة، سواء في التصويت أو في الانخراط في العمل السياسي.

 2. البُعد الوجداني:

يتعلق بمشاعر الأفراد تجاه النظام السياسي، مثل الانتماء الوطني، مشاعر الولاء أو الاغتراب، ومدى الثقة أو الشك في مؤسسات الدولة. هذا البُعد يعكس العلاقة العاطفية بين المواطن والدولة، والتي يمكن أن تكون إيجابية تعزز الاستقرار، أو سلبية تؤدي إلى العزوف والانفصال.

 3. البُعد التقييمي:

يرتبط بالأحكام التي يُصدرها الأفراد حول الأداء السياسي والنظام السياسي ككل، ويتضمن ذلك تقييم العدالة، الشفافية، الكفاءة، والمساءلة. فالمواطن الذي يشعر بأن النظام السياسي عادل وفعال يكون أكثر استعدادًا لدعمه والمشاركة فيه.

 4. البُعد السلوكي:

ويُعبر عن الأفعال السياسية التي يمارسها المواطن، كالمشاركة في الانتخابات، الانخراط في الأحزاب السياسية، التظاهر، أو النقاشات السياسية. هذا البُعد هو التعبير العملي عن مدى ترسخ الثقافة السياسية لدى الأفراد.

3. العوامل المؤثرة في الثقافة السياسية

تتأثر الثقافة السياسية بعدد من العوامل، أبرزها:

 1. التنشئة السياسية:

تلعب الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، والمؤسسات الدينية دوراً أساسياً في تشكيل الثقافة السياسية، خاصة في المراحل الأولى من حياة الفرد. وتُعد الأسرة أول مدرسة سياسية للطفل، بينما تقوم المدرسة بترسيخ مفاهيم المواطنة والانتماء، ويُكمل الإعلام هذا الدور بتوفير المعلومات والتفسيرات.

 2. المستوى التعليمي:

يرتبط ارتفاع المستوى التعليمي بزيادة الوعي السياسي والمشاركة الفاعلة، ما يعزز من الثقافة السياسية التشاركية. فالتعليم لا يزود الفرد بالمعرفة فقط، بل ينمي لديه التفكير النقدي الذي يُعد أساسًا للمساءلة والمشاركة.

 3. النظام السياسي:

تسهم طبيعة النظام السياسي (ديمقراطي أو سلطوي) في تعزيز أو تقييد مظاهر الثقافة السياسية. فالأنظمة الديمقراطية تتيح فرصاً أكبر للتعبير والمشاركة، في حين تسعى الأنظمة السلطوية إلى فرض ثقافة خضوع وتبعية.

 4. الخبرات التاريخية:

تلعب الأحداث الكبرى مثل الثورات، الحروب، أو الانقلابات دوراً في تشكيل الوعي السياسي وترسيخ أنماط معينة من الثقافة السياسية. فالتجارب المؤلمة أو البطولية تبقى محفورة في الذاكرة الجماعية وتؤثر على اتجاهات الأجيال القادمة.

 5. السياق الاجتماعي والاقتصادي:

يؤثر الوضع الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي في انخراط الأفراد بالعمل السياسي. فالفقر والتهميش قد يؤديان إلى اللامبالاة السياسية أو حتى التطرف، بينما يعزز الاستقرار والعدالة الاقتصادية من المشاركة السياسية الإيجابية.

 6. الإعلام والتكنولوجيا:

يلعب الإعلام دوراً محورياً في تشكيل الثقافة السياسية من خلال ما يعرضه من محتوى، سواء كان تثقيفيًا أو تعبويًا. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة جديدة للتفاعل السياسي والتعبير عن الآراء، لكنها في الوقت ذاته قد تُسهم في نشر المعلومات المضللة وتكريس الاستقطاب.

4. تأثيرات الثقافة السياسية في المجتمعات المعاصرة

 1. تعزيز الاستقرار السياسي:

تُسهم الثقافة السياسية التي تتسم بالثقة والولاء للمؤسسات في تحقيق الاستقرار، فيما قد تؤدي الثقافة المتذبذبة أو العدائية إلى أزمات سياسية. فكلما زادت الثقة بين المواطنين والدولة، كلما كانت شرعية النظام أقوى.

 2. دعم التحول الديمقراطي:

تعد الثقافة السياسية شرطاً مهماً في نجاح الانتقال من نظم استبدادية إلى نظم ديمقراطية، من خلال تعزيز قيم المشاركة، الحوار، والتسامح. كما أن الثقافة التشاركية تساعد على تأسيس مؤسسات قوية ومستدامة.

 3. محاربة الفساد:

تلعب الثقافة السياسية الشفافة دوراً في تكريس المساءلة والمطالبة بمحاسبة المسؤولين، وهو ما يُضعف الفساد ويعزز النزاهة. فالمجتمعات التي يتفاعل فيها المواطن مع الشأن العام تفرض رقابة تلقائية على المسؤولين.

 4. تنمية الحس المدني:

الثقافة السياسية الإيجابية تشجع الأفراد على خدمة الصالح العام والمشاركة في القرارات المحلية والوطنية. وهي تدفع المواطنين إلى الإسهام في العمل التطوعي والمبادرات المجتمعية.

 5. مقاومة الاستبداد:

في المجتمعات التي تسود فيها ثقافة سياسية ناضجة، تُصبح مقاومة الاستبداد ممكنة عبر وعي مجتمعي ومؤسسات قوية. فالثقافة السياسية الواعية تُنتج مواطنًا ناقدًا لا يُستَلب بسهولة.

 6. تعزيز الانتماء الوطني:

ترتبط الثقافة السياسية القوية بحالة من الاعتزاز بالهوية الوطنية، ما يعزز من وحدة المجتمع وتماسكه أمام التحديات الداخلية والخارجية.

5. الثقافة السياسية في الوطن العربي

تُعاني الكثير من الدول العربية من اختلالات في الثقافة السياسية، حيث يغلب عليها الطابع الخضوعي أو التبعي، وتقل فيها الممارسات التشاركية. وتعود هذه الإشكالية إلى عوامل عدة، منها غياب الحريات، ضعف التعليم، الخطاب الإعلامي الموجه، وتاريخ طويل من الحكم السلطوي.

كما أن الأنظمة التعليمية غالبًا ما تُركز على الحفظ والتلقين بدلًا من النقد والمشاركة، مما يُنتج مواطنًا غير معني بالشأن العام. وغياب الشفافية وحرية التعبير يُضعف من قدرة المواطنين على المساهمة في صنع القرار.

ومع ذلك، فإن التحولات التي شهدتها بعض المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة أفرزت ديناميكيات جديدة، تجلت في مظاهر الاحتجاج السلمي، والحوار المجتمعي، والوعي المتزايد بقضايا الحوكمة والمساءلة. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إعادة تشكيل المشهد السياسي، إذ أصبحت أداة مهمة لنشر الوعي، وتنظيم الحملات، والتعبير عن الرأي.

إلا أن هذه التحولات تظل هشّة ما لم تُدعّم بإصلاحات مؤسسية، وتنمية ثقافية حقيقية، تستهدف تعزيز الثقافة السياسية التشاركية.

 خاتمة

الثقافة السياسية عنصر حاسم في بناء المجتمعات الحديثة، وهي مفتاح لفهم العلاقة بين المواطن والدولة. فكلما كانت الثقافة السياسية قائمة على المعرفة، المشاركة، والانفتاح، كانت المجتمعات أكثر قدرة على التقدم الديمقراطي والتماسك الداخلي. من هنا، تبرز الحاجة إلى ترسيخ ثقافة سياسية بناءة تبدأ من الأسرة والمدرسة، وتمتد إلى كل مؤسسات التنشئة والتوجيه.

إن فهم الثقافة السياسية وتطويرها هو استثمار طويل الأمد في الاستقرار والعدالة والمواطنة الفاعلة. وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم، يصبح من الضروري إيلاء هذا المفهوم ما يستحقه من الاهتمام الأكاديمي والمجتمعي، باعتباره البوصلة التي توجه المجتمعات نحو مستقبل أكثر وعيًا وعدالة وتوازنًا.

مراجع 

 1. الثقافة السياسية في الوطن العربي: دراسة ميدانية مقارنة

- تأليف: غابرييل ألموند وسيدني فيربا (ترجمة عربية)

- الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية

- الملخص: يعرض نتائج دراسات ميدانية قارنت بين عدة مجتمعات عربية، مع تحليل مفصل لأنماط الثقافة السياسية.

 2. الثقافة السياسية والتحول الديمقراطي في العالم العربي

- تأليف: د. علي الدين هلال

- الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية

- الملخص: يركز على علاقة الثقافة السياسية بالانتقال الديمقراطي، مع أمثلة من التجربة العربية.

 3. المدخل إلى علم السياسة

- تأليف: د. عبد الغني بسيوني

- الناشر: دار المعارف

- الملخص: يحتوي فصولًا شاملة حول الثقافة السياسية، تعريفها، أبعادها، وعلاقتها بالمؤسسات والنظام السياسي.

 4. الثقافة السياسية: دراسة في علم الاجتماع السياسي

- تأليف: د. صبري محمد حسن

- الناشر: دار الشروق

- الملخص: يعالج الثقافة السياسية من منظور اجتماعي سياسي، ويركّز على دور التنشئة والإعلام والتعليم في بنائها.

 5. الديمقراطية والثقافة السياسية

- تأليف: مجموعة باحثين بإشراف: د. محمد عابد الجابري

- الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية

- الملخص: يناقش تأثير الثقافة السياسية على نجاح الديمقراطية في العالم العربي، مع تحليلات نظرية وعملية.

مواقع الكترونية 

1. مركز دراسات الوحدة العربية – قسم الثقافة السياسية

يحتوي على كتب وأبحاث محكّمة تتناول الثقافة السياسية في السياق العربي، ودورها في التحول الديمقراطي.
 https://caus.org.lb

2. المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية والسياسية – مقالات وتحليلات سياسية عربية

ينشر تقارير ودراسات تحليلية حول التغيرات الثقافية والسياسية في المجتمعات العربية.
 https://www.iiss.org

3. موقع الحوار المتمدن – قسم الفكر السياسي والثقافة الديمقراطية

يضم مئات المقالات بالعربية حول مفاهيم الثقافة السياسية، التعددية، والمشاركة المجتمعية.
 https://www.ahewar.org

4. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) – الثقافة والمواطنة

توفر بحوثًا ومشروعات عن تنمية الثقافة السياسية والمواطنة في العالم العربي.
 https://www.alecso.org/nsite/ar

5. مؤسسة مؤمنون بلا حدود – دراسات في الفكر السياسي والثقافي

منصة فكرية تقدم دراسات رصينة عن الثقافة السياسية، الهوية، والسلطة في المجتمعات العربية.
https://www.mominoun.com


تعليقات